منوعات

بين دفتي سان جو ينبض الرحيل تأملات نقدية في قصة فالح الدوسري

 

كتابة وقراءة: سلمى البكري

في مجموعة سان جو القصصية، التي ضمّت ثلاثين كاتبًا سعوديًا تنوّعت أصواتهم وتباينت أساليبهم، يبرز صوت المستشار والكاتب فالح الدوسري في قصته الرحيل بوصفه نغمةً متميزة تمزج بين رهافة الشعور وعبق البادية الأصيل. القصة، وإن بدت في ظاهرها حكاية بسيطة عن شاب يُدعى خلف يخرج في رحلة شاقة بحثًا عن عشبة تشفي أمه المريضة، إلا أنها في عمقها أكثر من مجرد سردٍ واقعي؛ إنها رحلة رمزية في دروب الإنسان الداخلية، حيث يتقاطع الواجب مع العاطفة، ويتجلى الصراع الأبدي بين الحب والقدر.
يحمل عنوان القصة الرحيل دلالة عميقة تتجاوز المعنى الحرفي، فهو لا يشير إلى السفر المادي فحسب، بل إلى ارتحال الروح بين أطياف الفقد والحنين. فالرحيل يتكرر في مستويات متعددة: رحيل خلف عن موطنه في سبيل الأم، رحيل أمه عن الحياة، ثم رحيل جواهر حبيبته التي تركها إلى حياة أخرى بزواجها من غيره. وهكذا يصبح الرحيل في النص مرآة لفجيعة الإنسان حين يضطر أن يختار، فيخسر ما يحب في سبيل ما يؤمن به.
يستهل الكاتب حكايته في فضاءٍ صحراوي قاسٍ، لكن هذا الفضاء لا يُقدَّم كخلفية جامدة، بل ككائن حيّ ينبض بالقيم والرموز. الصحراء هنا انعكاس لروح البطل، ميدان للصبر والوفاء والالتزام، بينما الواحة التي يصلها في منتصف القصة تمثل الوجه الآخر من الوجود: الجمال، الخصوبة، والحياة الجديدة المتجسدة في جواهر. بهذا التباين بين الصحراء والواحة، يرسم الكاتب لوحة رمزية بديعة عن جدلية العطش والارتواء، والموت والحياة، والعقل والقلب.
أما الشخصيات، فقد رسمها الدوسري بحسّ إنساني عميق. فـخلف ليس بطلاً أسطوريًا، بل إنسان بسيط تتقاذفه القيم والعواطف، تضطره أمانة البرّ بأمه إلى مغادرة الحب والواحة معًا. وجواهر، برقتها وصدقها، ليست مجرد حبيبةٍ عابرة، بل هي صورة الحلم الذي يظهر في حياة الإنسان ليمتحن إخلاصه. حتى الأم، رغم قصر حضورها، تبقى المحرّك الخفي للأحداث، فهي رمز الأصل والواجب والمصير الذي يوجّه خطى الابن نحو قدره.
لغة الكاتب في الرحيل تتّسم بصفاءٍ شعري عذب، تمزج بين الفصاحة ودفء البادية، دون تكلف أو تصنّع. جُمل مقتصدة في ظاهرها، لكنها مشحونة بالإيحاء، تترك في النفس أثرًا لا يزول. يكتب الدوسري كما لو أنه ينحت كلماته على الرمل، بخفةٍ ورهافة، ومع ذلك تظل منقوشة في الذاكرة. ومن أجمل ما في النص قدرته على جعل القارئ يعيش المشهد لا بوصفه متلقيًا، بل كشاهدٍ عاطفي يشارك خلف وجعه وحنينه وصمته.
في أعمق مستويات القراءة، تتجلّى القصة كتأمل فلسفي في ثنائية الحياة والموت، والحب والواجب، والقدر والاختيار. فحين يعود خلف من رحلته ليجد أمه راحلة، يكتشف أن العلاج الذي بحث عنه كان عبثيًا أمام حتمية الفقد، وأن الرحلة لم تكن لإنقاذ الجسد بقدر ما كانت لتطهير الروح. وعندما يعود ليبحث عن جواهر بعد فوات الأوان، يتجسد المعنى الأكبر للرحيل: أن بعض الأبواب لا تُفتح مرتين، وأن بعض الوجوه تبقى محفورة في الذاكرة فقط، لا في الواقع.
ما يجعل الرحيل متميزة في سياق مجموعة سان جو هو وفاؤها للهوية البدوية التي تنبض بها تفاصيلها، في زمنٍ اتجه فيه كثير من الكتّاب نحو الحواضر والرمزية الباردة. حيث أعاد فالح الدوسري عبر نصه الدافئ شيئًا من صفاء الصحراء وكرامة الإنسان البدوي وصدق مشاعره، دون أن يغفل عن عمق البنية السردية الحديثة. لقد جمع بين التراث والحداثة، بين الأصالة والتجريب، في نسيجٍ لغوي وأدبي يليق بكاتبٍ يعرف كيف يصوغ من بساطة المشهد حكايةً خالدة.
في النهاية، ليست الرحيل قصة عن شابٍ فقد أمه وحبيبته، بل هي مرثية إنسانية عن الفقد الذي ينضج به الوجدان. إنها تذكّرنا بأن الحب لا يموت، بل يتحول إلى ذاكرةٍ تنبض في القلب، وأن بعض الرحيل لا يُقصد به الفراق، بل الوصول إلى وعيٍ أعمق بالذات وبالوجود. لقد كتب فالح الدوسري نصًا يفيض بالشجن والصدق، نصًا يجعل القارئ يرحل معه بين رمالٍ جافة وقلوبٍ عطشى، ليكتشف أن وراء كل حزنٍ جمالًا، وأن كل رحلةٍ في ظاهرها فراق، هي في جوهرها درس في الوفاء والإنسانية.
بهذه القصة، يضيف الكاتب والمستشار فالح الدوسري لبنة مضيئة في صرح الأدب السعودي، مؤكدًا أن الحكاية الصادقة مهما بدت بسيطة، تبقى أعمق من أن تُقاس بعدد صفحاتها؛ لأنها تُقاس بما تتركه من أثرٍ في القلب، وما توقظه من صدى في الروح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com