مقالات رأي

ماجد العيدان يكتب:”رونالدو أن تطير في الأربعين”

 

 

ليس الهدف هو الخبر، بل ما يعنيه الهدف .
عندما أبحر كريستيانو رونالدو في شواطئ الخليج، وأودع الكرة مقصية في الشباك بضربةٍ واحدة بدأت وكأنها مُخرجة من فيلم هوليوود، من إنتاج النصر بقلب الرياض في الأول بارك، لم يكن يسجّل هدفاً عادياً في الأسبوع التاسع من دوري روشن السعودي، بل كان يُعيد كتابة تعريف كلمة طالما استُخدمت ضده كسلاح: «الانتهاء».

في مجتمعنا الرياضي الذي يُسرع دائماً إلى دفن قدرات الأحياء، صار «الانتهاء» حكماً نهائياً يُصدره البعض بمجرد أن يتجاوز اللاعب الخامسة والثلاثين، أو بمجرد أن ينتقل إلى الدوري السعودي. لكن رونالدو، منذ قدومه إلى الرياض، سمع هذه الكلمة أكثر مما سمع اسمه الحقيقي. قيلت له بكل لغات العالم، وكتبوها في طيات الصحف ،وعناوين المنصات ، وانتظروا سقوطه كما تنتظر الصحراء المطر.

تلك المقصية الساحرة وفي الأربعين من عمره لم تكن حركة رياضية فقط، بل فعل فلسفي عميق: رفضٌ صارخ لفكرة أن الزمن خطّ مستقيم لا رجعة فيه، وإعلانٌ أن الإرادة قادرة على تحويل ما كان يُسمَّى «نهاية» إلى بداية جديدة لعالم كامل.
في لحظة واحدة، لم يُعلِ رونالدو نفسه فوق الزمن فحسب، بل رفع معه دورياً كاملاً من هامش الخريطة الكروية إلى مركزها. ما كان يُنظر إليه كـ«محطة تقاعد» صار، بقدمه، منصة تُرغم مئات الملايين على أن ينظروا للسعودية ، وأن يروا في الصحراء ما لم يروه من قبل: إمكانية أن يولد المستقبل من قلب ما ظنوه ماضياً.

ولأن الكاميرات لا تكذب، انتشر الفيديو في ثوانٍ معدودة إلى 500 مليون مشاهدة حول العالم. صحيفة «ماركا» الإسبانية وضعته على صدر صفحتها الأولى، و«سكاي سبورت» الإنجليزية قطعت برامجها لتعيد المقصية مرات ومرات، وفي البرازيل توقف الناس في شوارع ساو باولو ليشاهدوه على شاشات العرض الكبيرة. حتى في الهند وإندونيسيا والصين ونيجيريا ومختلف دول العالم ، حيث لا يعرف كثيرون أسماء أندية الدوري السعودي، صار اسم «النصر» يُنطق بسهولة ومن أول مرة .

هذه هي العبقرية الحقيقية للرهان السعودي: لم يشتروا لاعباً، بل اشتروا لحظة تاريخية. فكل هدف ، وكل «سييي»، وكل عقال يرفعه رونالدو فوق رأسه ليس مجرد احتفال، بل إعلان وجودي: أن المكان الذي اختاره الآخرون لينتهي فيه أسطورة صار المكان الذي تُكتب فيه فصول جديدة من الأسطورة نفسها، وتُبث للعالم كله كدليل على أن الجغرافيا لا تحدد المصير، الإرادة هي من تحدده.

الأجمل أن رونالدو احتفل «بالعقال السعودي» وكأنه يقول: أنا سعودي وهمتي مقرونة بجبل طويق.
رسالة لكل من كان يترقب نهايته: «ما زلتُ أطير، وأنتم ما زلتم تنظرون إلى الأرض».

ربما هذا هو الدرس الأعمق الذي يقدمه رونالدو للعالم ولنا جميعاً:
العظمة ليست أن تكون الأفضل في العشرين، بل أن تظل الأفضل حين يقول لك العالم «كفى»… وأن تحول مكاناً كان العالم يراه نهاية إلى نقطة انطلاق يضطر العالم نفسه لأن يتبعها بنظره.

كريستيانو رونالدو في الأول بارك لم يسجل هدفاً فحسب.
بل ألغى فكرة «الانتهاء»، وحوّل دوري روشن إلى مرآة يرى فيها العالم إمكانيات لم يكن يعرف أنها موجودة…
وأثبت أن الإنسان، إذا أراد، يستطيع أن يطير… حتى لو كان في الأربعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com