قراءة في ديوان الشاعر عبد الله العطية “قبلة تسرق الحزن”
الكأس- سلمى البكري
تنطلق القصيدة الشعرية – في ديوان عبد الله العطية- بوعي وإدراك، لتثير اهتمام القارئ، سواء كان متذوقاً للجماليات، أو متأملاً في أبعاد النص، ومن خلال مجموعته الشعرية الموسومة بـ “قبلة تسرق الحزن ” يجد كلُّ قارئ نفسه مدفوعاً لاستكشاف ما تحتويه من دلالات جمالية، وما للتجربة الإبداعية من إثراء لفظي.
يتناغم شاعرنا مع التراث بكل تجلياته، مستفيداً من التعالق النصي الذي ينبع من النصوص الدينية، مما يثري قصائده ويعزز أبعادها الروحية والفكرية. كما أنه يستحضر المرتكزات الدينية والمكونات الثقافية في بناء أعماله، ليحوّل شعره إلى لوحة تشكيلية غنية تضم تنوعاً من الصور الفنية التي تعكس عمقًا فكرياً وروحياً.
من خلال تتبعنا لديوان الشاعر عبد الله لاحظنا أن له حساً مرهفاً وشاعرياً عميقاً، حيث تظهر هذه السمات بوضوح في قصيدته المعنونة بـ “يا بنت مريم”، إذ يتجلى فيها النداء العاطفي، والشغف الشديد النابع من أعماق الشاعر، حيث يبدأ قائلاً:
“عهد قديم مضى من دون مضمون
فجدديهِ بعهد منك يحييني”
هنا، يعبر الشاعر عن حالة من الحنين لعهد قديم فقد معناه، ويطلب من محبوبته أن تعيد إليه الحياة من خلال وعد جديد ينسخ الحياة القديمة، ويحمل في مضمونه معنى الأمل.
ثم يقول:
“كوني على شوفة الايام أغنية
جديدة تركت أحلى التلاحين”
هنا، يطلب الشاعر أن تكون محبوبته بمثابة الأغنية التي تعيد النغمة الجميلة للأيام، لتصبح تلك الأيام ممتلئة بالجمال والحياة، بعد أن كانت قد خلت من البهجة.
وفي الأبيات التالية:
“ورتلي سورة العشاق كاملة
من سفر أيوب حتى آي يسِ”
يدعو الشاعر محبوبته إلى لونٍ من الحوار المقدَّس “ورتلي سورة العشاق”، ما يعكس مزيجاً من النزعة الروحية والعاطفية، ويشير بذلك إلى أن الحب مثل النصوص المقدسة، يجب أن يكون في صورة ساميةٍ يُصلحُ به الروحَ ويحييها.
ويقول أيضاً:
“ألقي عصاك على أرض تضج دماً
فلم تزل ها هنا بعض الثعابين”
في هذه الأبيات، ينتقل الشاعر إلى صورة رمزية معبرة عن الصراع والمخاطر المحدق به في الحياة، وهو يدعو إلى إلقاء عصاها على الأرض المليئة بالدماء لتخفف من أعباءٍ قد تحيط بهما، وهذا المعنى المجازي يرمز إلى التحديات والمحن التي تواجهها، موضحاً أن الحياة لا تخلو من الأوجاع والصعوبات التي قد تكون مغطاة ببعض الأعداء والمخاطر (الثعابين).
من خلال هذه الأبيات، يبدع الشاعر في تصوير حالة من الألم والانتظار، تتجانس معها الروحانية، والحس العاطفي، ليقدم لنا باقة شعرية غنية بالرمزية، والتصوير الفني.
وفي قصيدة “نبوءة”، سيمفونية المقدسة تنساب كلماتها، لتأخذنا إلى عالمٍ من الشعر الصافي والمكتنز بالدهشة، يعبّر الشاعر في أبياتها عن علاقةٍ تحمل طابعاً مقدساً وفريداً من نوعه، حيث يستخدم الرمزية، والتشبيه بشكل يثير التأمل.
في البداية، يقول الشاعر:
جبريل يحمل وحيه أما أنا
أنثاي لي وكأنها جبريلُ
هنا، يقدّم الشاعر العطية صورة رمزية معبرة إذ إن “جبريل”، الملاك الذي يعتبر في العديد من الديانات تجسيدًا للقداسة وحاملًا للرسالة الإلهية، إلا أن الشاعر يتجاوز هذا التشبيه ليجعل “أنثاه” بمثابة “جبريل”، مما يشير إلى قدسية العلاقة بينه وبين محبوبته، ومن خلال هذه الصورة لا يتوقف عند فكرة العشق التقليدي، بل ألبسها صفة الملائكية والطهارة، التي تحمل في ثناياها رسالة خاصة.
ثم يقول الشاعر:
“لم تحمل الإكليل وقت لقائنا
بل كان يحمل روحها الإكليل”
في هذه الأبيات، يستمر الشاعر في استخدام الرمزية ليصف اللقاء مع المحبوبة، حيث يشير إلى أن الإكليل (الذي يُعتبر رمزاً للتتويج) لم يكن يحمل في هذه اللحظة معنى تقليدياً، بل كانت روح المحبوبة نفسها هي التي تحمل هذا الإكليل، مما يدل على أن اللقاء بين الشاعر ومحبوبته ليس مجرد لقاءً عابرًا، بل ينم عن لحظة مباركة، تعبر عن سمو هذه الروح العاطرة، ولو قال الشاعر (جسمها) بدلًا من (روحها)، لأحالنا على معنى آخر يتمثل في صورة الموت، وتأبين الجسد، ولكن الروح حاضرة مما أعطى معنى الحياة، فكان اللقاء في صورته الحيوية المبتهجة، لا صورته التراجيدية الكئيبة.
هذه الأبيات تكشف عن حضور الرمزية، وقوة التصوير الفني في شعر العطية، حيث لا يُعبّر عن العلاقة العاطفية بلغة مبتذلة أو سطحية، بل يرفعها إلى مستوى من القداسة والروحانية. إذ إنه لا يكتفي بوصف الحب بمعناه العادي، بل يحوّله إلى تجربة فلسفية، وروحية مليئة بالرموز الدينية، والتشبيهات التي تجعل من العلاقة بينه وبين محبوبته تجربة خارجة عن حدود الزمان والمكان، كون المقارنة بين المحبوبة و”جبريل” عكست مدى تأثيرها العاطفي في حياة الشاعر، فكما أن جبريل يحمل الرسالة الإلهية، كذلك المحبوبة تحمل رسالة من نوع خاص، تتجاوز الحدود المادية، وتلامس العمق الروحي.
كما أن الإشارة إلى الإكليل كرمز للروح تعكس أيضًا فكرة أن الحب ليس مجرد شعور عابر، بل هو حالة من التتويج الروحي كما ذكرنا، حيث تصبح المحبوبة ليس ملهمة للشاعر فحسب، بل هي في حد ذاتها تجسيد للقداسة.
ويتضح لنا من خلال ما تقدّم قدرة الشاعر على استخدام الرمزية لتقديم صورة سلسة وجميلة للعلاقة العاطفية، وهي دعوة للتفكير في الحب من زاوية تتجاوز المفاهيم التقليدية، لتصل إلى مستويات أعمق من الفهم والإحساس.
وأخيراً يمكننا القول إن قصائد الشاعر عبد الله العطية تتميز بالشاعرية الرفيعة، والثراء اللغوي المعبّر، كما أن الانزياحات المكثفة التي تستنطق الإبداع تعكس عمق التجربة الفنية، إذ يعتمد العطية على تقنيات مبتكرة تثير الدهشة، وتؤثر في المتلقي، تتمثل في توظيف الرموز بأسلوب دلالي مميز يمنح القصائد عمقاً شعورياً وزخماً قوياً. وهذه التقنيات المتكئة على تكثيف المعاني، والإثراء اللفظي تحيل القصيدة إلى فضاء مفتوح على التأويل، والدخول في عوالم شعورية فريدة تحمل في طياتها أبعاداً جمالية وفكرية عميقة.